فصل: تفسير الآيات (1- 2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (35- 39):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}
وقوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجعل هذا البلد آمِنًا} تقدَّم تفسيره.
وقوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام}: و{واجنبني}: معناه: امنعني، يقال: جَنَبَهُ كَذَا، وأَجْنَبَهُ؛ إِذا مَنَعَهُ من الأمْر وحَمَاهُ منْه.
* ت *: وكذا قال * ص *: و{اجنبني}: معناه: امنعني، أصله من الجَانِبِ، وعبارةُ المَهْدَوِيِّ: أي: اجعلني جانباً من عبادتها.
وقال الثعلبيُّ: {واجنبني}، أي: بعّدني واجعلني منْها على جانِبٍ بعيدٍ. انتهى، وهذه الألفاظ كلُّها متقاربة المعاني، وأراد إبراهيم عليه السلام بَنِيَّ صُلْبه، وأما باقي نَسْله، فمنهم مَنْ عبد الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إِفراطَ خَوْفه علَى نفسه ومَنْ حصل في رتبته، فكيف يَخَافُ أنْ يعبد صَنَماً، لكن هذه الآية ينبغي أنْ يُقْتَدَى بها في الخَوْفِ، وطَلَبِ حُسْنِ الخاتمة، و{الأصنام}: هي المنحوتةُ على خَلْقَة البَشَر، وما كان منحوتاً على غَيْرِ خلْقَة البَشَرِ، فهي أوثانٌ، قاله الطبريُّ عن مجاهد، ونسب إِلى الأصنام أنها أضَلَّتْ كثيراً من الناس تجوُّزاً، وحقيقةُ الإِضلال إِنما هي لمخترعها سبحانه، وقيل: أراد ب {الأصنام} هنا: الدنانيرُ والدَّرَاهم.
وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي}: ظاهره بالكُفْر؛ لمعادلة قوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وإِذا كان ذلك كذلك، فقوله: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: معناه: بتوبَتِكَ على الكَفَرَةِ؛ حتى يؤمنوا لا أنَّه أراد أنَّ اللَّه يغفر لكَافِرٍ، وحمله على هذه العبارة ما كَانَ يأخذ نَفْسَهُ به من القَوْلِ الجميلِ، والنُّطْقِ الحسنِ، وجميلِ الأَدَبِ صلى الله عليه وسلم، قال قتاد: اسمعوا قوْلَ الخليلِ صلى الله عليه وسلم: واللَّه ما كانُوا طَعَّانين ولا لَعَّانِينِ، وكذلك قولُ نبيِّ اللَّه عيسى عليه السلام: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، وأسند الطبريُّ عن عبد اللَّهِ بْن عَمْرٍو حديثاً: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، تلا هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، ثم دعا لأمته فبَشَّرَ فيهم، وكان إِبراهيمُ التَّيْمِيُّ يقول: مَنْ يأمن على نفْسه بَعْدَ خوف إِبراهيمَ الخليل على نَفْسِهِ مِنْ عبادة الأصْنام.
وقوله: و{مِن ذُرِّيَّتِي}: يريد: إِسماعيل عليه السلام، وذلك أَنَّ سارَّة لمَّا غارَتْ بهاجَرَ بَعْدَ أَنْ ولدَتْ إِسماعيل، تشوَّش قلبُ إِبراهيم مِنْهُما، فروي أنَّه رَكِبَ البُرَاقَ هو وهَاجَر، والطفلُ، فجاء في يَوْمٍ واحدٍ من الشامِ إِلى بَطْنِ مَكَّة، فتركَهُما هناك، ورَكِبَ منصرفاً من يومه ذلك، وكان ذلك كلُّه بوحْيٍ من اللَّه تعالى، فلمَّا ولى، دعا بمضمَّن هذه الآية، وأمَّا كيفيَّة بقاء هَاجَرَ، وما صَنَعَتْ، وسائرُ خَبَر إِسماعيل، ففي كتابِ البخاريِّ وغيره، وفي السير، ذُكِرَ ذلك كلُّه مستَوْعَباً.
* ت *: وفي صحيح البخاري من حديثه الطويل في قصَّة إِبراهِيمَ مع هَاجَرَ وولدِهَا، لما حَمَلَهُما إِلى مكَّة، قال: ولَيْسَ بمكَّة يَومَئِذٍ أَحَدٌ، وليس فيها ماءٌ، فوضعهما هنالِكَ، ووضَعَ عندهما جراباً فيه تمْر، وسقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفَّى إِبراهيم منطلقاً، فتبعْتهُ أمُّ إِسماعيل، فقالَتْ: يا إِبراهيم، أيْنَ تَذْهَبُ، وتَتْرُكُنَا بهذا الوادِي الذي لَيْسَ فيهِ أَنِيسٌ، ولا شَيْء، فقالَتْ له ذلك مِرَاراً، وجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِليها، فقالَتْ لَهُ: آللَّه أمَرَكَ بهذا؟ قال: نعمْ، قالتْ: إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا، ثم رَجَعَتْ، فانطلق إِبراهيمُ حتى إِذا كان عند الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ، استقبل بوجهه الْبَيْتَ، ثم دعا بهؤلاءِ الدعَواتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فقال: «رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم}، حتى بَلَغَ: {يَشْكُرُونَ}»الحديثَ بطوله وفي الطريقٍ: قالَتْ: ياإِبراهيم إِلى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قال: إِلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ: رَضِيتُ. انتهى. وفي هذا الحديثِ مِنَ الفوائِدِ لأرباب القلوبِ والمتوكِّلين وأهْلِ الثقة باللَّه سُبْحَانه ما يَطُولُ بنا سرْدُهَا، فإِليك استخراجها، ولما انقطعَتْ هاجَرُ وابنها إِلى اللَّه تعالى، آواهما اللَّه، وأنْبَعَ لهما ماءَ زَمْزَمَ المبارَكَ الذي جَعَله غذاءً، قال ابنُ العربي: وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ». قال ابن العربيِّ: ولقد كُنْتُ مقيماً بمكَّة سنَةَ سَبْعٍ وثمانينَ وأربعمائة، وكنتُ أَشْرَبُ مَاءَ زَمْزَمَ كثيراً، وكلَّما شرِبْتُ، نَوَيْتُ بِهِ العِلْمَ والإِيمانَ، ونَسِيتُ أنْ أشربه للعَمَلِ، ففتح لي في العِلْمِ، ويا لَيْتَنِي شربْتُه لهما معاً؛ حتى يُفْتَحَ لي فيهما، ولم يُقَدَّر، فكان صَغْوِي إِلى العلْمِ أَكْثَرَ منه إِلى العمل، انتهى من الأحكام.
و{من}؛ في قوله: و{مِن ذُرِّيَّتِي}؛ للتبعيضِ؛ لأن إِسحاق كان بالشَّام، والوادِي: ما بين الجبَلَيْن، وليس مِنْ شرطه أَنْ يكون فيه ماءٌ، وجَمْعُه الضميرَ في قوله: {لِيُقِيمُواْ}: يدلُّ على أن اللَّه قد أعلمه أنَّ ذلك الطِّفْلَ سَيُعْقِبُ هناك، ويكونُ له نسلٌ، واللام في {لِيُقِيمُواْ}: لامُ كي؛ هذا هو الظاهر، ويصحُّ أَنْ تكون لام الأمر؛ كأنه رَغِبَ إِلى اللَّه سبحانه أَنْ يوفِّقهم لإِقامة الصلاة، والأفئدة القلوبُ جمْع فؤادٍ، سمِّي بذلك، لاتِّقَادِهِ، مأخوذ من فَأَد، ومنه: المُفْتَأَدُ، وهو مستوقَدُ النَّار حيث يُشْوَى اللحْمُ.
وقوله: {مِّنَ الناس}: تبعيضٌ، ومراده المؤمنون، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (40- 41):

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
وقوله: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة}: دعاء إِبراهيمُ عليه السلام في أمْر كان مثابراً عليه، متمسكاً به، ومتى دعا الإِنسان في مثْل هذا، فإِنما المَقْصِدُ إِدامةُ ذلك الأمْر، واستمراره قال السُّهَيْلِيُّ: قوله تعالى: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَّتِي} بحرف التبعيض، ولذلك أسلم بَعْضُ ذريته دُونَ بعضٍ، انتهى، وفاقاً لما تقدَّم الآن.
وقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ}: اختلف في تأويل ذلكَ، فقالَتْ فرقة: كان ذلك قَبْل يأسه من إِيمان أبيه، وتبيُّنه أنه عدُوٌّ للَّه، فأراد أباه وأُمَّه؛ لأنَّها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم ونوحاً عليهما السلام، وقرأ الزُّهْرِيُّ وغيره: {وَلِوَلَدَيَّ}؛ على أنه دعاءٌ لإِسماعيل وإِسحاق، وأنكرها عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وقال: إِن في مُصْحَفِ أَبيِّ بنِ كَعْبٍ وَلأَبَوَيَّ.

.تفسير الآيات (42- 44):

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}
وقوله عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ...} الآية: هذه الآية بجملتها فيها وعيدٌ للظالمين، وتسليةٌ للمظلومين، والخطابُ بقوله: {تَحْسَبَنَّ} للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، و{تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}، معناه: تُحِدُّ النظرَ، لفرط الفَزَعِ ولفَرْطِ ذلك يَشْخَصُ المُخْتَضَرُ، والمُهْطِع المسرع في مَشْيه؛ قاله ابنُ جُبَيْر وغيره، وذلك بِذِلَّة واستكانة، كإِسراع الأسير ونحوه، وهذا أرجحُ الأقوال، وقال ابن عباس وغيره: الإِهطاع شدَّة النظر من غير أنْ يَطْرِفَ، وقال ابنُ زَيْدٍ: المُهْطِع: الذي لا يرفع رأسَهُ، قال أبو عُبَيْدة: قد يكون: الإِهْطَاعُ للوجْهَيْنِ جميعاً: الإِسراع، وإِدَامَةُ النَّظَر، والمُقْنِعُ: هو الذي يَرْفَعُ رأْسَه قدُماً بوَجْهِهِ نحو الشيْءِ، ومِنْ ذلك قولُ الشاعر: [الوافر]
يُبَاكِرْنَ الْعِضَاهَ بِمُقْنَعَاتٍ ** نَوَاجِذُهُنَّ كَالْحَدَإِ الوَقِيعِ

يصفُ الإِبلَ عند رعْيها أَعاليَ الشَّجَر، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوهُ الناسِ يوم القيامَةِ إِلى السماء لا يَنْظُرُ أَحدٌ إِلى أحد، وذكر المبرِّد فيما حَكَى عنه مكِّيٌّ: أن الإِقناع يوجَدُ في كلامِ العَرب بمعنَى: خَفْضِ الرأسِ من الذِّلَّة.
قال * ع *: والأول أشهر.
وقوله سبحانه: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}؛ أي: لا يَطْرِفُونَ من الحَذَرِ والجزعِ وشدَّة الحال.
وقوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}: تشبيه محضٌ، وَجِهَةُ التشبيه يحتملُ أنْ تكون في فراغِ الأَفئدة من الخَيْرِ والرَّجاء والطمعِ في الرحمة، فهي متخرِّقة مُشَبِهَةٌ الهواءَ في تَفرُّغه من الأشياء، وانخراقه، ويحتمل أنْ تكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صُدُورهم، وأنها تذهب وتجيءُ وتبلُغُ علَى ما رُوِيَ حناجرهم، فهي في ذلك كالهَوَاءِ الذي هو أبداً في اضطراب.
وقوله سبحانه: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}: المراد باليَوْمِ: يومُ القيامةِ، ونصبُهُ على أنه مفعولٌ ب {أَنْذِر}، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً، لأن القيامة ليْسَتْ بموطنِ إِنذار، قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ عبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبي جَمْرَة: يجبُ التصْدِيقُ بكُلِّ ما أخبر اللَّه ورسُولُهُ به، ولا يتعرَّض إِلى الكيفيَّة في كلِّ ما جاء من أمْرِ الساعة وأَحْوَالِ يومِ القيامةِ، فإِنه أمْرٌ لا تسعه العُقُولُ، وطَلَبُ الكيفيَّة فيه ضعْفٌ في الإِيمانِ، وإِنما يجبُ الجَزْم بالتصديقِ بجميعِ مَا أخبر اللَّه بهِ، انتهى.
قال الغَزَّالِيُّ: فَأَعلمُ العلماءِ وأعْرَفُ الحكماءِ ينكشفُ له عَقِيبَ المَوْت مِنَ العجائبِ والآياتِ ما لَمْ يَخْطُرْ قَطُّ بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكُنْ للعاقلَ هَمٌّ ولا غَمٌّ، إِلا التفكُّر في خَطَر تلك الأحوال، وما الذي ينكشفُ عَنْه الغِطَاء من شقاوةٍ لازمةٍ، أو سعادة دائمةٍ لكان ذلك كافياً في استغراق جميع العُمُر، والعَجَبُ من غَفْلتنا، وهذه العظائِمُ بَيْنَ أيدينا. انتهى من الإِحياء.
وقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ...} الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: {مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ}: هو المُقْسَمُ عليه، وهذه الآية ناظرةٌ إِلى ما حَكَى اللَّه سبحانه عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].

.تفسير الآيات (45- 47):

{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}
وقوله سبحانه: {وَسَكَنتُمْ...} الآية: المعنَى: بقول اللَّه عزَّ وجلَّ: وسكَنْتُم أيها المُعْرِضُون عَنْ آيات اللَّه مِنْ جميعِ العالمِ في مَسَاكِن الذين ظَلَمُوا أنفسهم بالكُفْر من الأمم السَّالفة، فنزلَتْ بهم المُثَلاَثُ، فكان حَقُّكُم الاعتبار والاتعاظ. وقوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}: أي: جزاء مكرهم، وقرأ السبعة سوى الكسائِيِّ: {وإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ}- بكسر اللام من {لِتَزُولَ} وفتح الأخيرة-؛ وهذا على أن تكون {إِنْ} نافيةً بمعنى مَا، ومعنى الآية تحقيرُ مَكْرِهم، وأنه مَا كَانَ لِتَزُولَ منه الشرائعُ والنبوَّاتُ وإِقدارُ اللَّه بها التي هي كالْجِبَالِ في ثبوتها وقوَّتها، هذا تأويلُ الحَسَن وجماعة المفسِّرين وتحتملُ عندي هذه القراءةُ أنْ تكونَ بمعنى تَعْظِيمِ مَكْرهم، أي: وإِن كان شديداً، وقرأ الكسائيّ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ}- بفتح اللام الأولَى من لَتَزُولُ، وضمِّ الأخيرة-، وهي قراءة ابن عبَّاس وغيره، ومعنى الآية: تعظيمُ مكرِهِمْ وشدَّتُه، أي: أنه مما يشقى به، ويزيلُ الجبالَ عن مستقرَّاتها، لقوَّته، ولكنَّ اللَّه تعالى أبطله ونَصَرَ أولياءه، وهذا أشَدُّ في العبرة، وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبيٌّ: {وإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ}، وذكر أبو حاتم أنَّ في قراءة أبيٍّ: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الجِبَالُ}.
وقوله سبحان: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ...} الآية: تثبيت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولغيره من أمَّته، ولم يكُنِ النبيُّ عليه السلام ممَّن يَحْسَبَنَّ مثْلَ هذا، ولكنْ خَرجَتِ العبارةُ هكذا، والمراد بما فيها من الزجْرِ غَيْرُهُ؛ {إِنَّ الله عَزِيزٌ}: لا يمتنعُ منْه شيء، {ذُو انتقام}: من الكَفَرة.

.تفسير الآيات (48- 52):

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)}
وقوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض...}، الآية: {يَوْمٍ} ظِرفٌ للانتقامِ المذْكُورِ قبله، وروي في تَبْدِيلِ الأرض أَخْبَارٌ منها في الصَّحِيحِ: «يُبَدِّلُ اللَّهُ هَذِهِ الأَرْضَ بأَرْضٍ عَفْرَاءَ بَيْضَاءَ كَأَنَّهَا قرصة نَقي»، وفي الصحيح: «إِنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُهَا خُبْزَةً يَأْكُلُ المؤمن مِنْهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ» وروي أنها تبدَّلُ أَرضاً من فِضَّةٍ، وروي أنها أرض كالفضَّة مِنْ بياضها، وروي أنها تبدَّل من نارٍ.
قال * ع *: وسمعتُ من أبي رحمه اللَّه؛ أنه روي أنَّ التبديل يَقَعُ في الأرضِ، ولكنْ يبدَّل لكلِّ فريقٍ بما يقتضيه حالُهُ، فالمُؤْمِنُ يكُونُ على خُبْزٍ يأكُلُ منه بحَسَبِ حاجته إِليه، وفريقٌ يكونُ على فضَّة، إِن صحَّ السند بها، وفريقُ الكَفَرَةِ يَكُونُونَ على نارٍ، ونحو هذا ممَّا كله واقِعٌ تحْتَ قدرةِ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ، وأكثر المفسِّرين على أنَّ التبديلَ يكونُ بأرضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فيها، ولا سُفِكَ فِيهَا دَمٌ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَدٍ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «المؤمنون وقْتَ التبديل في ظلِّ العرش»، وروي عنه أنه قال: «النَّاسُ وقْتَ التبديل على الصِّراط»، ورُوِيَ أنه قال: «الناسُ حينئذٍ أضْيَافُ اللَّهِ، فلا يُعْجِزُهُم ما لَدَيْهِ» وفي صحيح مسلم من حديث ثَوْبَان في سؤال الحَبْرِ، وقوله: يا مُحَمَّدُ، أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسموات؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «هُمْ فِي الظُلْمَةِ دُونَ الجسر» الحديثَ بطوله، وخرَّجه مسلمٌ وابنُ مَاجَه جميعاً، قالا: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ، ثم أسنَدَا عَنْ عائشة، قَالَتْ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض السموات} فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسِ؟ قَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ»، وخرَّجه الترمذيُّ من حديث عائشة، قالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، فَأَيْنَ يَكُونُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «عَلَى الصِّرَاطِ يَا عَائِشَةُ»، قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسن صحيح. انتهى من التذكرة.
{وَتَرَى المجرمين}: أي الكفَّار، و{مُّقَرَّنِينَ}: أي: مربوطين في قَرْنٍ، وهو الحَبْلُ الذي تُشَدُّ به رؤوس الإِبِلِ والبَقَرِ، و{الأصفاد}: هي الأغلال، واحِدُها صَفَد، والسَّرابيل: القُمُصُ، وال {قَطِرَانٍ}: هو الذي تهنأ به الإِبل، وللنار فيه اشتعال شديدٌ، فلذلك جعل اللَّهُ قُمُصَ أهْلِ النارِ منه، وقرأ عمر بن الخطاب وعليٌّ وأبو هريرة وابنُ عبَّاس وغيرهم: {مِنْ قِطْرٍ آنٍ}، والقِطْر: القَصْدِير، وقيل: النُّحَاس، وروي عن عمر أنَّه قال: ليس بالقَطِرَانِ، ولكنَّه النُّحَاس يسر بلونه، و{آن}: صفة، وهو الذائبُ الحارُّ الذي تناهَى حَرُّه؛ قال الحَسَن: قد سُعِّرَتْ عليه جهنَّم منْذُ خُلِقَتْ، فتناهَى حَرُّه.
وقوله سبحانه: {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ...} الآية: جاء من لفظة الكَسْب بما يعم المُسِيءَ والمُحْسِنَ؛ لينبِّه على أنَّ المحسن أيضاً يجازَى بإِحسانه خيراً.
وقوله سبحانه: {هذا بلاغ لِّلنَّاسِ...} الآية: إِشارةٌ إِلى القرآن والوعيدِ الذي تضمنَّه، والمعنى: هذا بلاغٌ للناس، وهو لينذروا به وليذَّكَّر أولو الألباب، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وصَحْبِه وسلَّم تسليماً.

.تفسير سورة الحجر:

مكية.

.تفسير الآيات (1- 2):

{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}
قوله عزَّ وجلَّ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}: قال مجاهد وقتادة: {الكتاب}: في الآية: ما نزل من الكُتُب قَبْل القرآن، ويحتمل أنْ يراد ب {الكتاب} القرآن: ثم تُعْطَفُ الصفَةُ عليه، و{رُبَّمَا}: للتقليلِ، وقد تجيء شاذَّةً للتكثير.
وقال قوم: إِن هذه مِنْ ذلك، وأنكر الزَّجَّاج أنْ تجيءَ رُبَّ للتكثيرِ، واختلف المتأوِّلون في الوَقْت الذي يَوَدُّ فيه الكفَّار أنْ يكونوا مسلمين، فقالَتْ فرقة: هو عند معاينة المَوْتِ، حَكَى ذلك الضَّحَّاك، وقالَتْ فرقة: هو عند معايَنَةِ أهْوَالِ يومِ القيَامَة، وقال ابنُ عبَّاس وغيره: هو عِنْدَ دخولهم النَّار، ومعرفَتِهِم، بدخولِ المؤمنين الجَنَّة، وروي فيه حديثٌ من طريق أبي موسَى.